من سيره الامام الشافعي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين,
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما
ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا
اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول
فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل
والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
وقفة متأنية :
أيها الأخوة الكرام، لا زلنا مع الإمام الشافعي، وقبل أن نمضي في متابعة
الحديث, عن مآثره، وعن مناقبه الرفيعة, لا بد من وقفة قصيرة في موضوع متعلق
بأعلام المسلمين .
فالدنيا لها سقف، مهما كنتَ تملك من المال، فقدرتك
على الاستمتاع بالحياة الدنيا محدودة، لو أنك تملك آلاف الألوف, هل تستطيع
أن تأخذ فوق حاجتك؟ القدرة على الاستمتاع في الحياة الدنيا محدودة، الدنيا
لها سقف, أما إذا عملت للآخرة, ليس هناك سقف .
الإمام الشافعي عاش
قرابة خمسين عاماً، يعني ليس مِن يوم من ألف سنة ولا الآن, إلا ويذكر
الإمام الشافعي عشرات ألوف المرات، اجتهاداته، أقواله، حكمه، مناقبه،
فضائله، يا ترى هذه البطولة انفرد بها أم أنها متاحة للجميع؟ إذا انفرد بها
تنشأ أسئلة كثيرة، أما إذا كان هذا متاحاً لكل البشر, عندئذٍ نحن نلوم
أنفسنا على التقصير .
النقطة الدقيقة في هذا الموضوع: أن الناس لا
يتفاوتون في قدراتهم، بل يتفاوتون في طلباتهم، كلنا ضعاف، وكلنا فقراء إلى
الله عز وجل، بقدر طلبك الصادق من الله عز وجل, الله عز وجل يعطيك من
القدرة والإمكان والأهلية ما يحقق هذا الطلب، فنتفاوت جميعاً في صدقنا في
طلبنا، فإنسان يعيش مثلاً مائة وثلاثين سنة, تافهاً جداً، لا يترك أثراً،
ولا خَلَفًا صالحًا، ولا إنجازاً، ولا عملاً طيباً، وإنسان يعيش خمسين سنة,
يملأ الدنيا علماً .
ألم يسأل أحدكم نفسه هذا السؤال: ما الذي يحول
بيني وبين أن أكون عَلَماً من أعلام الأمة، وهل الإمام الشافعي من جبلة
أخرى؟ لا، من خصائص أخرى؟ لا، قال تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾
[سورة الأعراف الآية: 189]
بل إن النبي عليه الصلاة والسلام من بني البشر، قال: اللهم إنني بشر، ولولا أنه تجري عليه كل خصائص البشر, لما كان سيد البشر .
فالسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا الإنسان في أمر الآخرة يقنع بالقليل؟ يقنع
بركعات يؤديها، معلومات يفهمها، لم لا يتفوق؟ باب البطولة مفتوح على
مصراعيه، وباب النبوة مغلق، لا نبي بعدي، وباب الصديقية مغلق، قال عليه
الصلاة والسلام:
((ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر))
دعك من باب النبوة، ومن باب الصديقية، أن تكون مؤمناً كبيراً, فهذا بين
يديك، ربنا هو ربهم، وإلهنا هو إلههم، ومنهجنا هو منهجهم، إذاً: نحن يمكن
لنا أن نسعى للآخرة، ثم دقق النظر في هذه الآيات:
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
[ سورة المطففين الآية: 26]
هنا مجال التنافس، مجال طلب العلم، مجال تعليم العلم، مجال تقديم خدمات للمسلمين ، مجال نشر الحق، قال تعالى:
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾
[ سورة الصافات الآية: 61]
هذا الإمام الشافعي، والإمام الغزالي، هل هما من نوع آخر؟ صدق الغزالي مع
الله عز وجل, فصدقه الله، إحياء علوم الدين, يعد أكبر مرجع في علم النفس
الإسلامي، من لم يقرأ الإحياء, فليس من الأحياء، كما يقولون، كتاب قيم,
أملاه من ذاكرته، صدق الله فصدقه .
أيها الأخوة، وكل واحد منا بقدر
صدقه, ينال من توفيق الله وعونه، سحرة فرعون جاؤوا لينقضوا معجزة سيدنا
موسى، فلما رأوا العصا أصبحت ثعباناً مبيناً, آمنوا، قال تعالى:
﴿فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ
آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ
خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ
أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾
[ سورة طه الآية: 70-71]
فالذي أتمنى أنْ تعلموه, أن الإمام الشافعي إنسان عظيم، فهل هو من طبيعة
أخرى؟ لا والله، من جبلة خاصة؟ لا والله، الخصائص واحدة، والإمكانات واحدة،
لكنه طلب من الله طلباً نحن ما طلبناه، وقد أعطاه الله على قدر طلبه،
والله يعطي ويزيد، وهناك أمثلة كثيرة يمكن أن تصل إلى أعلى درجة، لا
بقدراتك الذاتية، بل بما يؤهلك الله به من قدرات، وهذا التأهيل متعلق بطلبك
الصادق .
إذا لم يحدِّث أحدُنا نفسَه بنشر الحق، والدعوة إلى الله، فأين مكانه عند الله؟ يا بشر لا صدقة ولا جهاد, فبمَ تلقى الله إذاً؟ .
كيف قسم الشافعي وقته في الليل ؟
ولنَعُدْ إلى الإمام الشافعي، قال الربيع:
((كان الشافعي قد جزَّأ الليل؛ فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام))
في الدين شيئان؛ اتصال، وخدمة، وعمل صالح، من السهل جداً أن يطغى العمل
الصالح على عبادتك، ومن السهل جداً أن تطغى عبادتك على العمل الصالح، إن
طغت العبادة على العمل الصالح, اختل التوازن، وإن طغى العمل الصالح على
العبادة, اختل التوازن أيضًا ، والأكمل: أن توازن بين العبادة والعمل
الصالح .
هناك منزلقات، فالإنسان من خدمة إلى خدمة، من مشروع إلى
مشروع، إلى تأسيس مسجد، إلى رعاية أيتام، من تأسيس جمعية على حساب اتصاله
بالله، عباداته ضعيفة، صلواته غير متقنة، اتصاله بالله غير مكين، يأتي
إنسان آخر, يعتني بقلبه وبأذكاره، ولكن ليس له عمل صالح، فكذلك إن طغت
العبادة على العمل الصالح, اختل التوازن، وإن طغى العمل على العبادة, اختل
التوازن .
البطولة: أن توازن بين عبادتك وبين عملك الصالح، الصلاة على
وقتها، المبالغة في الاستقامة، وأداء العبادات، ثم الانطلاق إلى الأعمال
الصالحة، لا تنسوا أن من أدعية النبي دعاءين اثنين, وأنت في أحد حالين؛ إما
أنك في المسجد، وإما أنك خارج المسجد, وإذا كنت في المسجد, فاسمعْ للحديث
الشريف، فعن أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ
الْمَسْجِدَ, فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ،
فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ))
[ أخرجه مسلم في الصحيح]
خارج المسجد أعمال صالحة، كسب رزق، تربية أولاد، خدمة الخلق، ضمن المسجد تتلقى من الله التجلي والرحمات .
فالإمام الشافعي كان قد جَزَّأ الليل، فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي،
يعني عمل واتصال، الاتصال شحن، والعمل غنى، أنت غني بقدر أعمالك الصالحة،
وأنت قريب بقدر اتصالك بالله، فلا بد من شحن لهذه النفس، ولا بد من أداء
لهذه الأعمال الصالحة .
من أضرار الشبع في الطعام :
يقول الإمام الشافعي:
((ما
شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرةً واحدة، فأدخلت يدي فتقيأتها, لأن الشبع
يثقل البدن، ويقسِّي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف عن العبادة))
فإذا اعتاد الإنسان أكلاً قليلاً, يشعر بنشاط على أداء الصلوات، ويستيقظ
براحة، فالإنسان يجرب أن يأكل وفق السنة، أكلاً معتدلاً قليلاً، وأن يأكل
كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام، يشعر براحة، ونشاط منقطع النظير .
لذلك: أول بدعةٍ ابتدعها المسلمون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (الشبع) .
الشافعي لم يحلف بالله لا صادقاً ولا كاذباً :
شيء آخر من مناقب الإمام الشافعي إذ يقول:
((ما حلفت بالله لا صادقاً، ولا كاذباً))
لماذا؟ لأن الله عز وجل قال:
﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾
[ سورة المائدة الآية: 89]
عود الناس على أن كلامك مصدقٌ بلا يمين، ويقع معظمُ الناسُ في خطأ, من أجل
أن يقوِّيَ المرءُ كلامه, يلجأ إلى الأيمان المغلظة، وهذه العادة كرهها
الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، بل كان يدفع دينارَ ذهب، إذا حلف يميناً
صادقاً، وهو لا يكذب إطلاقاً، لأن الله عز وجل قال:
﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾
[ سورة المائدة الآية: 89]
كرم الشافعي :
وقال عمرو بن السواد:
((كان الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام))
والحقيقة: أنّ الدينار والدرهم محك، قال: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: هل سافرت
معه؟ قال: لا، قال: هل جاورته؟ قال: لا، قال: هل حاككته بالدرهم والدينار؟
قال: لا، قال: إذًا: أنت لا تعرفه .
فموضوع المال؛ أنْ يضبط الإنسان
كسبه، ويضبط إنفاقه، وهذا شيء أساسي في حياة المؤمن، إذا سافر إنسان مع
أخوانه, فهو دقيق في الدفع، ألا يدفع؟ ليس معقولاً، قدمت له هدية, ما
يكافئك عليها؟ ليس معقولاً، فكلما كان إيمان الإنسان قويًا، يصبح ورعه
المالي شديدًا جداً .
أنا أذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام انقطع عنه
الوحي أسبوعين, فقال: يا عائشة, لعلها تمرةٌ أكلتها من تمر الصدقة, وجد
على السرير تمرةً فأكلها, فالإنسان كلما كان ورعاً في النواحي المالية,
كلما كان الطريق إلى الخالق سالكاً .
قدم الشافعي صنعاء, فضربت له خيمة، ومعه عشرة آلاف دينار، فجاء قوم فسألوه فأعطاهم، فما قلعت الخيمة، حتى أنفق كل ما معه،
((لمن
هذا الوادي يا رسول الله؟ قال: هو لك ، قال: أتهزأ بي؟ قال: والله هو لك،
قال: أشهد أنك رسول الله، تعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر))
الإنسان
دائما يتألّف بالعطاء قلوب الناس، الأشخاص الماديون إن أعطيتهم أسِرتَهم،
دائماً هذه قاعدة: العطاء يقرب، وهناك عطاء يبعد، فإذا كان الإنسان
متفلتًا, فالمال يمكن أن يعينه على المعاصي، وهذا العطاء يبعده عن الله،
وبعض الناس يكون المال عزيزًا عليه، لكنه منضبط، إن أعطيته قرَّبتَه .
كلمة حق قالها الشافعي :
وعن الربيع قال, سمعت الشافعي, يقول:
((من استُغضِب فلم يغضب, فهو حمار، ومن استرضي فلم يرضَ, فهو شيطان))
إنسان يسترضيك، يعتذر إليك، يقدم المعذرة، يقول لك: سامحني لم أكن
منتبهاً، وأنت لا ترضى، فمن استرضي فلم يرض, فهو شيطان، خالق الكون إذا
استرضِيَ رضيَ، الله كيف يسترضى؟ بالصدقة، بالتوبة .
((صدقة السر تطفئ غضب الرب))
((باكروا بالصدقة, فإن البلاء لا يتخطاها))
يعني إذا إنسان لا سمح الله زلَّت قدمه، فماذا يفعل؟ ييأس؟ اليأس كفر، لا
تيأس، واسترضِ ربك بالتوبة، واسترضه بالصدقة، إذا أذنب العبدُ مرة واحدة,
فالتوبة منه سهلة جداً ، أما إذا زلّت القدم ثانيةً، ووقعت في الذنب نفسه,
كيف تسترضي الله عز وجل؟ بالتوبة الثانية مع الصدقة، لأن الحسنات يذهبن
السيئات .
عَنْ أَبِي ذَرٍّ, قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ, وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا, وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))
[ أخرجه أحمد في مسنده]
المؤمن حكيم يعالج نفسه دائماً، يعرف كيف يكون له اتصال بالله, وإذا حجب
عن الله عز وجل, فالله يُسترضَى، إذا كان الله غاضباً على مؤمن لزلّةٍ زلّ
فيها, استُرِضيَ ربنا بالتوبة والصدقةِ، فإنّ صدقة السر تطفئ غضب الرب،
باكروا بالصدقة, فإن البلاء لا يتخطاها، الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع
في يد الفقير .
يجب أن تعرف أنك مخلوق للجنة، والمؤمن عنده أوسع باب يدخل به على الله تعالى، هو باب التوبة، قال تعالى:
﴿قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
[ سورة الزمر الآية: 53]
لو جئتني بملء السموات والأرض خطايا, غفرتها لك ولا أبالي .
سمعت الشافعي يقول:
((من استغضب, فلم يغضب, فهو حمار))
فهو ليس من بني البشر .
قال أبو زرعة:
((مات الثوري، ومات معه الورع، ومات الشافعي، وماتت معه السنن، ويموت أحمد بن حنبل، وتظهر البدع))
في الإسلام أعلام، العلماء الأعلام, هؤلاء منارات الهدى في الحياة، فلذلك قال بعضهم: إنّ القائد بيبرس, قال:
((والله ما استقر ملكي, حتى مات العز بن عبد السلام))
قيل للحسن البصري:
((بمَ نلت هذا المقام؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي))
بالورع والزهد، والمثل الأعلى .
من نوادر التاريخ :
يقول أحدهم:
((واللهِ ما رأيت مثل الشافعي، ولا رأى هو مثل نفسه))
انظروا إلى التفوق، والذي أرجوه ألاّ يكون هذا الدرسُ, درسَ قصة، ولا درس
اطلاع، الوقت ثمين جداً، ولكنه درس تحفيز، أنت من أي نوع؟ أنت تملك
المقومات, لتكون علماً من أعلام الأمة .
ذات مرة: ذكرت لكم قصة أعيدها,
لأن فيها فائدة، إنسان بالخامس والخمسين سنة، تمنى أن يكون عالماً، وهو
أمِّيٌّ، لا يقرأ ولا يكتب، ركب دابته, وهو من صعيد مصر، واتجه إلى
القاهرة، وفي ذهنه أنه يوجد جامع اسمه: الأزعر، فسأل أحدهم: أين الأزعر؟
فقال له المسؤول: هو الأزهر، دلوه على الأزهر، تعلم القراءة والكتابة، ثم
تعلم القرآن، ثم طلب العلم ، وعاش حتى السادسة والتسعين، وما مات وهو شيخ
الأزهر، واسمه زكريا الأنصاري، شيخ الأزهر، أعلى علماء مصر منزلة، بدأ علمه
في الخامسة والخمسين .
يا أيها الأخوة، ما أردت أن يكون هذا الدرس
قصةً, ولا إعلاماً، بل أردته حافزاً للإنسان على أنْ يطلب العلم، ويعلِّم
العلم، يؤلف كتابًا، يخدم الناس، لك أن تؤلف القلوب، ولك أن تؤلف الكتب،
تأليف القلوب أشد تأثيراً، وتأليف الكتب أطول أمداً، والأولى أن تجمع
بينهما، أن تؤلف القلوب، وتحدث عند الناس تأثيرًا عميقًا، وأن تؤلف الكتب،
وتحدث تأثيرًا مديدًا .
الإمام الغزالي كان في مجلسه أربعمائة عمامة،
أربعمائة عالم يحضرون درسه، ولما توفي لو لم يكن له مؤلفات, لمات ذِكْرُه،
ماذا حل مكان الغزالي بعد موته؟ إحياؤه، والقرطبي أكبر مفسر للقرآن, ترك
التفسير العظيم، وكأنه لم يمت، اتركْ أثرًا في دعوة إلى الله، في عمل
الخير، في الشيء الطيب .
من عجائب الشافعي :
يقول الفضل بن زياد:
((ما أحد مس محبرةً ولا قلماً, إلا وللشافعي في عنقه منةَ))
قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾
[ سورة إبراهيم الآية: 24]
أذكر أنني حضَّرتُ مرةً خطبة من تفسير من التفاسير القيمة، وموضوع الخطب
تفسير آية، فيه شرط لطيف جداً، وألقيت الخطبة، وشعرت أنها كانت ناجحة جداً،
وتركت أثراً طيباً جداً، واللهِ بقيت أسبوعًا أترحم على هذا المفسر، الذي
كان هو السبب في نجاح هذه الخطبة، قلت: هذا الرجل مات منذ ألف سنة, ولكن
العلم مستقر في كتابه, وانتفع الناس منه من بعده، قد لا تعلم: مبلغ الآثار
الطيبة التي ينشرها الله على يديك, إذا أخلصت له .
اليوم كنا في زيارة
أخ، قال: كنت طالباً في التعليم الإعدادي عند مدرس لغة عربية، يُمضي عشر
دقائق في كل درس عن آداب المسلم في بيته، كيف يستيقظ؟ كيف يؤدي صلواته ،
كيف يتناول الطعام؟ فهو يذكر هذا المعلم، ويترحم عليه، فإذا تركت أثرًا بين
الناس, فأنت أسعد الناس .
صدقوني أيها الأخوة, أن تعريف الغنى
الحقيقي: هو غنى العمل الصالح، والفقر: هو فقر العمل الصالح، والغنى والفقر
بعد العرض على الله .
مقولة قالها أحد اللغويين :
أما في اللغة، فقال أحد اللغويين:
((جالسنا الشافعي فما سمعت منه لحنًا قط))
لحَن أحد الأعراب أمام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام:
((أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل))
وقالوا:
((جمال الرجل فصاحته))
وقال سيدنا عمر:
((تعلموا العربية فإنها من الدين))
هذه لغة القرآن، فكلما أتقنتها, أتقنت جزءًا من دينك، لأنك إذا قرأت
القرآن, وكنت متقناً لهذه اللغة، فإتقانك هذا, يعينك على فهم القرآن الكريم
بشكل أدق، وبشكل أوسع .
وقال بعضهم:
((ما رأيت أحداً أفوه ولا أنطق من الشافعي))
الحقيقة: أنّ ميزةَ اللغة, أنها وعاء الحق، فإذا كان الوعاء نظيفًا
وجميلاً, فقد قدَّمتَ الحق للناس بشكل مرغوب فيه، أما إذا أنت ذكرت الحق
بلغة عامية غير متماسكة, شوهت الحق، أحضرْ أفخر شراب، وضعه في إناء غير
نظيف، فيه صدأ، لا يرغب أحدٌ في شربه، أما إذا كانت الكأس صافيةً، نظيفةً،
متألقةً، لها لمعة، فهذا مما يعين على استساغة الشراب، وأنت كمؤمن, من
المفروض عليك, أن تقدم الحق بقالب أدبي لغوي، وهذا يعين على إيصال الحق
للآخرين، فاللغة أداة، وليست هدفاً، أما عند أهل الأدب فهي هدف، لكنها عند
أهل الدين أداة، والفرق بينهما كبير، يمكن لشاعر أنْ يؤلف ديوانين من الشعر
في الغزل، والهجاء, والمديح، ويضيع حياته سدى!؟ قال تعالى:
﴿وَالشُّعَرَاءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ
يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا
الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
[ سورة الشعراء الآية: 224-227]
يمكن أن تستخدم اللغة أداة ووعاء، أما أن تجعلها هدفاً, فهذا خطر كبير، وقال بعضهم:
((ما رأيت أحداً أفوه ولا أنطق من الشافعي))
في المنطق والحجة، لأن الله عز وجل قال:
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾
[ سورة الأنعام الآية: 83]
من المستحيل أنْ يكون المؤمن صادقًا، وليس معه حجة، مؤمن صادق لا يمكن أن
يدافع عن وجهة نظره، هذا مستحيل، مؤمن صادق ما معه حجة على أحقية دينه,
مستحيل .
الشافعي حجة في أهل عصره :
قال أحدهم:
((ما رأيت الشافعي، يناظر أحداً إلا رحمه، ولو رأيت الشافعي يناظرك, لظننت أنه سبع يأكلك، وهو الذي علم الناس الحِجاج))
قد يقابلك إنسان, تحترمه لورعه، أما إذا تكلم, لم تسمع له حجة، وكانت
أفكاره ضعيفة جداً، ويأتي إنسان منحرف، لا يعتقد بالدين, فيصغّره ويهزمه،
أنت لا تحترم رجلاً أخلاقه عالية، لكنه جاهل، هذا لا تحترمه، فلا يكون في
نظرك كبيراً، أخلاقي ورع، لكنه في المناقشة لا يصمد، يأتي إنسان منحرف
العقيدة, يصغره ويحطمه، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ولو اتخذه لعلَّمه،
فالحجة من لوازم المؤمن، لأن فضل العالم على العابد, كفضل القمر ليلة البدر
على سائر الكواكب، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
((فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ, كَفَضْلِي عَلَى
أَدْنَاكُمْ, ثُمَّ تَلا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾إِنَّ اللَّهَ, وَمَلائِكَتَهُ, وَأَهْلَ
سَمَوَاتِه,ِ وَأَرَضِيه,ِ وَالنُّونَ فِي الْبَحْر,ِ يُصَلُّونَ عَلَى
الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْخَيْرَ))
[ أخرجه الترمذي في سننه]
كم تكون المسافة كبيرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين آخر مؤمن, هي
نفسها بين العالم والعابد، لعالم واحد أشدُّ على الشيطان من ألف عابد،
العلم سلاح .
أحياناً ترى إنسانًا انتمى إلى مسجد، واتبع الدين، وفجأةً
انتكس، وارتكبَ كلَّ الكبائر، فما تفسير ذلك؟ هذا ما اتبع العلم، وما بنى
اتجاهه على علم، بنى اتجاهه على تقليد، فلما جاءت الشهوات، وكانت مقاومته
هشة, انتكس، هناك ضغوط في الحياة، وهناك شهوات، لا يصمد أمام الضغوط ولا
أمام الشهوات, إلا إيمان قوي أساسه علمي، والعلم سلاح كما قال النبي
الكريم:
((العلم سلاحي))
فكل إنسان بنى اتجاهه على التقليد، على
الانتماء العاطفي، هذا ربما لا يصمد أمام ضغط, أو أمام إغراء، أو أمام
شبهةٍ، ويقف دونك ثلاثة مزالق؛ شبهة في الدين، أو ضغط اجتماعي كبير، أو
إغراء شديد، أمام الإغراء، والضغط، والشبهة, تنهار قوى الإنسان، ولا يصمد
أمامها، لذلك قال أحدهم:
((ما رأيت الشافعي يناظر أحداً إلا رحمه، ولو رأيت الشافعي يناظرك, لظننت أنه سبع يأكلك، وهو الذي علم الناس الحِجاج))
أحيانا: أهل الدنيا يتوهمون أن الحق معهم، وهم الذين يفهمون، وأهل الدين
دراويش، وقد يتفاجؤون عندما يلتقون برجل من أهل العلم, لا يقف شيء أمامه،
صاحب حجة، منطقي واقعي، طموح، متماسك مع ذاته، ليست عنده ازدواجية، ولا
يكيل بمكيالين، قلبه على لسانه، سريرته كعلانيته، جلوته كخلوته .
الشافعي يحافظ على نعمة الماء :
ويقول بعضهم:
((ما رأيت أحداً أقل صبًّا للماء في تمام من الشافعي، يستهلك أقل كمية من الماء، ويقوم بأكمل وضوء))
قد ترى رجلاً, فتح صنبور المياه, حتى النهاية في الحمام، رد على الهاتف، والصنبور مفتوح، هذا خطأ كبير .
مرة النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وبقي في الإناء فضلة ماء قليلة، فقال عليه الصلاة والسلام:
((ردوها في النهر, ينفع الله بها قومًا آخرين))
هذا أيضاً الاقتصاد في الماء، وكما يقولون: العالَم الحديث مر بحربين؛ حرب
النفط، وحرب القمح، والحرب القادمة حرب الماء، فالماء أخطر شيء في الحياة،
والعالَم في شحٍّ مِن المياه، الآن المفاوضات والحروب، والمشكلات
والمنافسات على الماء فقط، على منابع المياه ، وحاجة الإنسان للماء مهمة
جداً، فلذلك الاقتصاد في الماء حضارة، رقي، صنبور يتسرب منه الماء, يمكن
للعداد أن يسجل أعدادًا متواليةً ما دام التسريب، طبعاً كما تعلمون الماء
قوام الحياة، والاقتصاد في الماء من العبادة .
اسمع أيها الفقيه :
ويقول الشافعي:
((ينبغي للفقيه أن يضع التراب على رأسه, تواضعاً لله وشكراً له))
فعندما تسمع عن أقوام يعبدون الشمس، أقوام يعبدون البقر، أقوام يعبدون
النار، أقوام يعبدون أعضاء الرجال في اليابان، أقوام يعبدون الموج، أقوام
يعبدون الجرذان .
إذا عرف الإنسانُ اللهَ، وعرف كتاب الله، واستنار
عقله بهذا الدين العظيم، وسلك الطريق القويم, فلا يضل ولا يشقى، لكم بشارة
عند الله عز وجل، قال تعالى:
﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
[ سورة الأنفال الآية: 23]
ما دام الله قد أسمعنا, فلعله علم فينا خيراً، فهذه بشارة، إذا سمح الله
عز وجل لك أن تسمع الحق، سمح لك أن تفقه، وأن تفهم أمر دينك، أعانك على
طاعته، وأعانك على غض البصر، وهو من أجلِّ العبادات في هذا الزمان، أعانك
على التعفف عن المال الحرام، وأعانك على أن تكون منصفاً، أعانك على أن تعطي
كل ذي حق حقه، فهذه من أجلِّ النعم التي أكرمك الله بها، من أجل أن تعرف
مكانتك عند الله عز وجل, اجلس مع صديق قديم، صديق له جاهلية، اجلس معه
ساعة، واستمع إليه، وانظر إلى سخافته, وإلى تناقضه، وإلى شهوانيته، وإلى
تفلته، وإلى شقائه, وإلى تبرمه، أنت في جنة، جنة القرب، جنة المعرفة .
إنسان أصابه مرض الريئان، ولكن من النوع الخطير والمميت، فزار طبيبًا، وأنا
التقيت مع هذا الطبيب، فأراد الطبيب أن يفهم ما السبب؟ وظل يحاول معه
ويستدرجه, حتى صرح له المريض بالسبب، وله زوجة وأولاد وبنات، يفعل الفاحشة
الشاذة مع أناس، فهذا شقي، ترى الإنسان ما دام مستقيمًا, فهو مَلَكٌ، لأنه
مالكٌ زمام أمرِه، وما دام عفيفًا, فهو يشعر بقيمته عند الله، أما حينما
تزلُّ قدمه, يسقط من عين الله، ومن عين الناس، وله عقاب أليم، ولكن قد يأتي
على الإنسان العقابُ الأليمُ بعد انحراف خطير، فيلاقي مِن الآلام ما لا
سبيل إلى وصفه .
الشافعي يعترف للآخرين بالفضل عليه :
قال بعضهم:
((هل تعرف سُنَّةً للنبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام, لم يودعها الشافعي في كتُبَه؟ قال: لا))
لقد تقصَّى الإمام الشافعي أن تكون كتبه منطويةً على سنة رسول الله، وهو القائل:
((إذا
رأيت رجلاً من أصحاب الحديث, فكأني رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله, جزاهم
الله خيراً، حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا المنة والفضل))
النقطة الدقيقة: أننا لا نعلم عظمة هذه السنة، سيدنا سعد قال:
((ثلاثة
أنا فيهن رجل، وفيما سوى ذلك, فأنا واحد من الناس؛ ما سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم حديثاً, إلا علمت أنه حق من الله تعالى))
أنت أمام
كتب السنة الكثيرة، أن تقول: قال عليه الصلاة والسلام، فهذا إنسان لا يخطئ،
ولا ينطق عن الهوى، هذا إنسان معصوم، هذا إنسان مشرِّع، هذا أعظم إنسان في
حياتك .
أحيانا الإنسان يقضي ساعته كلها في حديث شريف، ذات مرةٍ
التقيت مع رجُلين؛ أحدهما رجل متورط ورطة كبيرة، صاحبَ رجلاً غير مؤمن، جلب
له مشكلة كبيرة، والثاني دعا غير مؤمن لطعامه فحسده، فقلت للثاني: لمَ لمْ
تستجب لنصيحة رسول الله:
((لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا, وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ))
ويقول الشافعي:
((عليكم بأصحاب الحديث, فإنهم أكثر الناس صواباً))
فأنت أمام منهج، النبي يقول كذا، إذا فكرت أن هناك رأياً أصوب من رأي النبي, فأنت لا تنطوي على ذرة إيمان .
الشافعي لم يكن معتزلاً عن الناس ودليل ذلك علمه بأيامهم :
ويقول أحدهم:
((ما رأيت أحداً أعلم بأيام الناس من الشافعي))
أي بالوقائع اليومية، فالإنسان الداعية لا ينبغي أن يكون معزولاً عن الأحداث، الأحداث فيها عِبر .
ذكرت لكم من قبل: أنه يمكن أن تعرف الله من خلقه للكون، ويمكن أن تعرفه من
كلامه, ويمكن أن تعرفه من أفعاله -الحوادث -, المؤمن متكامل, حتى لو تتبع
أخبار ما يجري هذه الأخبار .
(بأطلنطا) قال رئيس البلدية: إن هذه
البلدة أأمن بلدة بالعالم قبل افتتاح المهرجان الرياضي، ثم فوجئوا: أن هناك
انفجاراً أدى إلى جرح المئات، المؤمن لا يملك المستقبل، لأنه لا يعلم
الغيب فيتأدب، قالها وهو يتحدى .
فإذا كان الإنسان ذا علم, فكلامه
موزون، وكلامه وفق المنهج، لقد سَمَّوْا مركبةً (اشلنجر) أي التحدي، بعد
سبعين ثانية أصبحت كتلة من اللهب، فيها تسعة أشخاص، بينهم امرأة، فقضية
التحدي, فيها جهل كبير، وقد يتفوّه الإنسان بكلمة كبيرة, يحطِّمه الله عز
وجل بها، فتجد المؤمن متوازنًا، لا يقع في تناقض في حياته، أقواله كلها
واقعية، أما غير المؤمن فيعلو ثم يسقط، يصعد إلى علٍ، ويسقط من علٍ، أما
المؤمن فهو صاعد صعوداً بطيئاً مستمراً إلى أبد الآبدين، الموت نقطة على
هذا الصعود, يبقى صاعداً آمنًا، فخطه البياني صاعد صعوداً متوازناً، يأتي
الموت ويستمر صاعداً، الموت فقط تبديل ثياب، خلع هذا الجسد ليكون بحالة
أخرى، لكنه يبقى هو هو .
هناك باليابان: منطقة أجروا اختبارات ضد
الزلازل على الكمبيوتر، فهذه المنطقة جاءها زلزال، ولم يقمْ هذا الجهاز
بعمله، ونكبت اليابان برقم فلكي، أضخم ثلاث شركات في اليابان, أصابها زلزال
واحترقت، كلام الكفار فيه تحدٍّ، واللهُ عز وجل بالمرصاد .
حسن الأداء وقوة البيان عند الشافعي :
قال بعضهم:
((لو
رأيت الشافعي, وحسن بيانه, وفصاحته لعجبت، ولو أنه ألف هذه الكتب على
عربيته التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة, لم نقدر على قراءتها, لشدة
فصاحته, و غرائب لفظه، غير أنه كان في تأليفه, يوضح للعوام))
تأليفه أبسط من كلامه، كلامه عميق جداً .
من أنواع البلاء الذي كان ينزل على الشافعي :
وقال عالِم آخر:
((ما لقيت أحداً لقي من السقم ما لقي الشافعي))
مرة التقيت بقريب لي، توفي رحمه الله، وأعمال صالحة، وله علم بالله عز
وجل، قال: في ساعة من ساعات ضيقه، إذْ كان يعاني من أمراضٍ كثيرة، وجميعها
مزمنة، فمرة كأنه يعاتب الله عز وجل، قال له: يا ربي، أنا كل حياتي مريض،
قال: فوقع في قلبه: أن يا عبدي، لولا هذا المرض, لما كنت بهذا الحال، لولا
هذه الأمراض, لما كنت بهذه الأحوال ضارعًا، هو الحكيم، فالإنسان عليه ألاّ
يكره الشيء الذي يؤلمه، فقد يكونُ سببَ نجاته .
من المسائل التي وردت عن الشافعي في مجال العقيدة :
هناك قضية مهمة جداً عند الإمام الشافعي متعلقة بالعقيدة، قال شيخ الإسلام
في كتاب عقيدة الشافعي, أنه سئل عن صفات الله تعالى, فقال: لله صفات
وأسماء, جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسع أحد,
قامت عليه الحجة أن يردَّها، أي إذا كان الشيء في القرآن مذكورًا، وفي
السنة صحيحًا مأثورًا، فلا يمكن أن تكون مؤمناً، وأن تردها، فهذا مستحيل،
لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها، فإن
خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه, فهو كافر .
مثلاً قال لك شخص: الاستقامة صعبة جداً، هذا كلام، قلت له: قال تعالى:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
[ سورة البقرة الآية: 286]
وأصرَّ على أن الاستقامة مستحيلة أو صعبة، فماذا فعل؟ ردّ كلام الله عز وجل بعد ثبوت الحجة، وهذا شيء خطير جداً، أي قال لك:
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
[ سورة البقرة الآية: 221]
خطب ابنتك رجل، أخلاقه عالية، إيمانه كبير، لكن الماديات وسط، ثم تقول: لا
يسعدها إلا بالمال، فأنت ماذا فعلتَ؟ قد رددت كلام الله، أليس كذلك؟ .
لكن هناك نقطة دقيقة: كنتَ غافلا عن آية، ذكَّرك بها أحدٌ، فبعد أن
تذكَّرتها, إن أصررتَ على موقفك المناقض لكلام الله, فقد كفرت، هذا كلام
الإمام الشافعي، لأن الله يقول:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ
ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً﴾
[ سورة الأحزاب الآية: 36]
قال لك الله عز وجل:
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾
[ سورة البقرة الآية: 276]
إذا كان يعتقد أن إنفاق المال في سبيل الله, يمحق المال، وأن استثماره ربوياً يزيده ، وذكَّرته بالآية، وأصرّ على موقفه, فقد كفر .
قال: أما قبل ثبوت الحجة, فهو معذور بالجهل، فالآية غير منتبه لها، فقد
اعتقد شيئاً خلاف القرآن، والآية لم ينتبه لها، وللشافعي كلمة قال فيها:
((لا نكفر بالجهل أحداً, إلا بعد انتهاء الخبر إليه))
فالجاهل لا يكفر، ولكن يُعلم .
من نصائح الشافعي :
قال الشافعي:
((تعبَّدْ قبل أن ترأَس، فإنك إن ترأست, لن تقدر أن تتعبَّد))
وهناك قول آخر مشابه:
((تعلموا قبل أن ترأسوا، فإنكم إن ترأستم, فلن تعلموا))
العلم ليس فيه حل وسط، قبل أن تلقي على الناس العلم, يجب أن تكون متمكناً،
والإنسان إذا ترأس قبل أن يتعلم العلم الكافي, يصعب عليه أن يخضع لغيره،
لذلك أكبر آفة تصيب من يتصدون لتعليم الناس, أنهم يبدؤون بالتعليم قبل أن
يتمكنوا، فإذا وُجِّهوا إلى الصواب, رفضوا، لأنه صار من الصعب أن يتراجع،
هذا من أخطاء التعليم، تعلموا قبل أن ترأسوا, فإن ترأستم فلن تعلموا، أما
هناك قلة قليلة تجمع بين التعليم والتعلم، والنبي الكريم يقول:
((يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم, فقد جهل))
مرة كنا في الجامعة، وجاءنا أستاذ من تونس، يُعَدُّ من أندر علماء
العربية، جاء إلى جامعتنا, ليلقي محاضرة، جمعوا طلاب السنة الرابعة في
المدرج، وكان الأساتذة الذين يدرِّسوننا اللغة العربية في أول صف، أنا كنت
ألاحظ إلى هؤلاء الأساتذة، فأكثرهم يستمع، إلا أن أعلمهم, جاء بورقة وقلم،
وبدأ يكتب، هذا الذي يكتب, معناها عالم ويتعلم، يتعلم أمام طلابه .
ما قاله أحمد بن حنبل عن الشافعي :
وقال بعضهم، وهو أحمد بن حنبل:
((إن
الله تعالى يقيِّض للناس في كل رأس مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن
رسول الله الكذب، فنظرنا فإذا على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز،
وعلى رأس المائتين الإمام الشافعي))
كلما أصبح, هناك انحرافات، إضافات, يقيض الله لهذه الأمة علماء صادقين، يعيدون الدين إلى أصله، إلى نقائه .
وأنا أنصح أخوتنا الكرام، والمثل واضح بين أيديكم: نهر بردى، له نبع، وله
مصب، انظر إلى منبعه، انظر إلى صفاء الماء ورقته، انظر إلى مصبه، فالماء
أسود، فأنت إذا أردت أن تنهل من هذا النبع, إلى أين تذهب؟ إلى منبعه، منبع
هذا الدين الكتاب و السنة .
قيل:
((لما قدم الشافعي إلى بغداد,
كان في المسجد نيف وأربعون حلقة، فلما دخل بغداد, مازال يقعد في حلقة
وحلقة، و يقول لهم: قال الله, وقال رسوله، وهم يقولون: قال أصحابنا, وقال
فلان, وقال فلان، هو أعادهم إلى الأصل، إلى الكتاب و السنة، قال: ثم ما بقي
في المسجد, إلا حلقة الشافعي))
الأصل أن تعيد الناس إلى كلام الله, وإلى سنة رسوله .
من حساد الشافعي :
وهناك دائماً حسد، فهذه قصة مفيدة جداً، قال زكريا بن يحيى:
((حدثني
الحسن بن محمد الزعفراني: حج بشر المريسي ذات سنة إلى مكة، ثم قدم فقال:
لقد رأيت بالحجاز رجلاً ما رأيت مثله سائلاً, ولا مجيباً، أي الشافعي، وهو
رجلٌ له حلقة دينية في بغداد كبيرة جداً، ثم قدم الشافعي إلى بغداد, فقال
بعض تلامذته: هذا الذي تزعم أنه ليس مثله عالم, قد حضر إلى بغداد، قال: إنه
قد تغير على ما كان عليه))
أي تراجع، هناك حسد دائماً .
فلا بد للمؤمن من كافر يقاتله، ومنافق يبغضه، ومؤمن يحسده، ونفس ترديه، وشيطان يغويه .
ما كتب على قبر الشافعي :
كُتِب على قبر الإمام الشافعي كلام طيب: هذا قبر محمد بن إدريس الشافعي،
وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن
الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من
في القبور، وأن صلاته، ونسكه, ومحياه لله رب العالمين, لا شريك له، وبذلك
أمر, وهو من المسلمين, عليه حيِا، وعليه مات، وعليه يبعث حياً إن شاء الله
تعالى .
توفي أبو عبد الله ليوم بقي من رجب سنة أربع ومائتين للهجرة .
عاش حوالي خمسين عامًا، وترك كتاب الأم، وكتاب الرسالة، وترك علماً غزيراً, لا يعلمه أحد بعده .
والحمد لله رب العالمين